أحمد إبراهيم، يكتب ،قراءة في فكر المستشار/ أحمد عبده ماهر، الجزء الثاني
نظرات فى كتاب (السنة النبوية بين الدس والتحريف)
قراءة في فكر “أحمد عبده ماهر ” الجزء الثانى .
بقلم / أحمد إبراهيم أحمد
نظرات في كتاب ” السنة النبوية بين الدس والتحريف ” ..
تطرق ماهر فى بدايات كتابه إلى جزئيات فرعية تمهيدا و تشويشا لأمور يظن أنه بها ينسف السنة ، فهو كناطح صخر ويظن أنه سيكسر الصخر .
تكلم عن الإسناد وأنه واهى، وعن اختلاف العلماء فى علم الرجال وتأويل مختلف الحديث، وعن تقاسيم أنواع الحديث ، ثم سرد مسلسل عن كيفية نقل البخاري للحديث بطريقة مضحكة تدل على قصور عقله وعدم إدراكة، وهذا كله ليقفز إلى قضايا ، ومنها
قوله :
(كتاب البخاري الذي تتشدقون به لا توجد مخطوطة منه بالعالم بخط يد البخاري , أو حتى عصره الذي تواجد به , فأقدم مخطوطة ترجع تاريخها إلى 105 سنة بعد وفاة البخاري) .
إن فكر أحمد عبده ماهر ، يدور في فلك التغربيين المنهزمين ، لذلك وجه كل طاقته نحو إسقاط الاحتجاج بالسنة النبوية المطهرة ، وعلى رأسها صحيح الإمام البخاري ، وهذا واضح من إيراد شبهه الواهية .
والحق المؤسف أننا نعيش في عصر يُطرح فيه مثل هذا السؤال الساذج , إذ مَن الذي يسأل عن النُّسخ الأصلية للكتب اليوم؟ فإذا بدأنا بالقرآن الكريم، فنحن نثق ثقة مطلقة بحفظ كتاب الله ومع ذلك لا نجد بين أيدينا النسخة الأصلية المكتوبة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حتى النسخة الأصلية لمصحف عثمان رضى الله عنه , بل وعندما اكتشف العلماء في ألمانيا مخطوطة قديمة للقرآن تعود للعهد الراشدي، وأكّدوا أنها مطابقة لما بين يدينا من القرآن اليوم ، لم يزدْ ذلك من يقيننا في كتاب الله شيئا فإذا مضينا للكتب البشرية، وجدنا أنّ السذّج فقط هم من يعتبرون وجود النسخة الأصلية المكتوبة بخط الكاتب هو الدليل على صحة نسبة الكتاب إليه .
إنّ وجود النسخة الخطية لكاتب الكتاب لم تكن يوما ولن تكون مرجعا في إثبات نسبة الكتاب إليه، و أنّ مسالك إثبات النسبة للكاتب تتعلق بتواتر نقل الكتاب وإثباته في عدة مراجع، وليس في وجود نسخة الكاتب الخطية .
و بداية ظهور هذه الشبهة تعود إلى الشيعة الزيدية في اليمن، حيث أشار لها الإمام ابن الوزير الصنعاني (ت: 840هـ) في كتابه (العواصم والقواصم في الذبّ عن سنة أبي القاسم).
وهى تعذر صحة نسبة كتب الحديث لأهلها، ومن باب أولى عدم صحة ما فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رد عليها ، العلامة ابن الوزير.
ثم اختفت هذه الشبهة ولم يعد أحد يتكلم عنها لضعفها , حتى أحياها المستشرق منجانا (1878-1937م) الذي دوّن هذه الشبهة في دراسته على صحيح البخاري.
ثم تلقفها هؤلاء القوم ، أمثال أحمد عبده ماهر , و احمد صبحى منصور ، واسلام البحيرى ، وعدنان إبراهيم، ورشيد ايلال , و حاولوا نفخ هذه الشبهة , يريدوا إقناع الناس أن الصحيح ليس من تصنيف البخاري ، وبالتالى عدم صحة نسبة الأحاديث للنبى صلى الله عليه وسلم .
وجوابي عن هذه الشبهة، تتمثل فى الاجابة عن سؤال مهم جدا ، وهو ، كيف وصل إلينا صحيح الامام البخارى؟
لقد اختصت الأمة المحمدية بخصيصةٌ عظيمةٌ، ومَيزةٌ لم تعط للأمم من قبلنا ألا وهو الإسناد فكل جيل ينقل العلم إلى من بعده بسند الى قائله .
وذكر العلامة الشيخ عبد الرحمن المُعلِّمى رحمه الله تعالى في فاتحة كتاب «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرازي: قال ( الإنسان يفتقر في دينه ودنياه إلى معلومات كثيرة لا سبيل له إليها الا بالإخبار، وإذ كان يقع في الأخبار الحق والباطل والصدق والكذب والصواب والخطأ فهو مضطر إلى تمييز ذلك.
وقد هيأ الله تبارك وتعالى لنا سلف صدق حفظوا لنا جميع ما نحتاج إليه من الأخبار في تفسير كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه، وقضايا القضاة، وفتاوى الفقهاء واللغة وآدابها والشعر، والتاريخ، وغير ذلك.
والتزموا وألزموا من بعدهم سوق تلك الأخبار بالأسانيد.
وتتبعوا أحوال الرواة التي تساعد على نقد أخبارهم وحفظوها لنا في جملة ما حفظوا.
وتفقدوا أحوال الرواة وقضوا على كل راو بما يستحقه، فميزوا من يجب الاحتجاج بخبره ولو انفر، ومن لا يجب الاحتجاج به إلا إذا اعتضد، ومن لا يحتج به ولكن يستشهد، ومن يعتمد عليه في حال دون أخرى، وما دون ذلك من متساهل ومغفل وكذاب.
وعمدوا إلى الأخبار فانتقدوها وفحصوها وخلصوا لنا منها ما ضمنوه كتب الصحيح، وتفقدوا الأخبار التي ظاهرها الصحة وقد عرفوا بسعة علمهم ودقة فهمهم ما يدفعها عن
الصحة فشرحوا عللها وبينوا خللها وضمنوها كتب العلل، وحاولوا مع ذلك إماتة الأخبار الكاذبة فلم ينقل أفاضلهم منها إلا ما احتاجوا إلى ذكره للدلالة على كذب رواية أو وهنه، ومن تسامح من متأخريهم فروى كل ما سمع فقد بين ذلك ووكل الناس إلى النقد الذي قد مهدت قواعده ونصبت معالمه). انتهى
فالحديث نقل بالسند؛ لأنه أصل من أصول الدين
فكل منقول متوقف قبوله أو ردُّه من حيث النقل على السند ، ونقد المتن ، فإن صح السند ولم تظهر علة في متنه تقدح فيه ثبت نقل الخبر، وإن لم يصح انتفى ثبوته، وبهذا المعيار يحاكم كل ما ينقل.
هكذا انكب السلف الصالح من صحابة وتابعين ومن بعدهم على السنة النبوية وما يتعلق بها من علوم، فانتشر الرُّواة والمحدثون , وأخذوا يبحثون في أسانيد الأحاديث النبوية ومتونها، فنشأ علم مصطلح الحديث، وطبقات الرجال، والجرح والتعديل، والتراجم؛ توخيًا للدقة، وحرصًا على سلامة السنة من أي تحريف.
وبذلوا جهوداً عظيمة في حفظ النص النبوي الشريف ، واشترطوا لقبول الحديث والحكم بصحته أن يكون راويه حافظاً له، حفظ صدر أو حفظ كتاب ، وكان من عادة المحدثين أن يجمعوا بين الحفظين، فيكتبوا أحاديثهم ثم يحفظوها،
فنتشر التصنيف في كتب الحديث ، فكان المصنف يحدث بالكتاب من أصله، ويرويه على الناس، ويقصده الناس لسماعه منه، وكتابة نسخه على يديه .
وقد تواتر صحيح الإمام البخاري عبر التاريخ بالنقل الشفوي وتداول النسخ . فعن محمد بن يوسف الفربري أنه قال: سمع كتاب الصحيح لمحمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل فما بقي أحد يرويه غيري أ.هـ
والمستمعون للبخاري كان بعضهم لا يكتفي بمجرد السماع والنقل الشفهي، بل كانوا يدوّنون أحاديث الشيخ، ليصبح عندهم نسخة مكتوبة من صحيح البخاري تضاف إلى نسختهم الشفوية التي حفظوها بين يدي البخاري, ثم يراجعون ما نسخوه من صحيح البخاري على نسخة كتاب شيخهم البخاري نفسه، ويصحّحون ما وقع منهم من خلل ، وبعد انتهاء النسخ والمقابلة والمطابقة على نسخ الشيخ نفسه يكتبون على نسختهم وقت انتهائها، وأنها قوبلت على نسخة الشيخ .
وقد اشتهرت ثلاثة روايات عن البخاري
الرواية الأولى :رواية إبراهِيم بن مَعْقِل النَّسفي المتوفى سنة (295) ه.
و اشتهرت هذه الرواية من طريق أبي صالح، خلف بن محمد الخيام, وعنه رواها الإمامُ الكبير أبو سليمان الخَطّابِيّ المتوفى سنة 388 هـ. ويُعَد كتابُ الخطابي المسمى بـ «أعلام الحديث» عمدة في رِواية إبراهِيم بن مَعْقِل النَّسفي .
الرواية الثانية :رواية حماد بن شاكر النَّسفي المتوفى سنة (311) ه .
وهذه الرواية أنقص بمائتي حديث عن رِواية الفَرَبْريّ , وعرفت هذه الرواية من طريقين .
الأول : من رواية ( بكر بن محمد بن جعفر) .
الثاني : هو من رِواية (أحمد بن محمد بن رميح النسوي ).
وقد أكثر البييهقي النقل من هذه الرِّواية في «السنن الكبرى» عن شيخه أبي عبد الله الحاكِم، عن أحمد بن محمد بن رميح، عن حماد بن شاكر، عن البُخارِيّ.
الرواية الثالثة :رِواية أبي عبد الله الفَرَبْريّ (231 – 320) هـ.
و سمع أبو عبد الله الفَرَبْريّ كتاب (الجامع الصحيح ) من مصنفه الإمام أبي عبد الله البُخارِيّ أكثر من مرة، قيل مرتين: مرة بفربر سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومائتين .
وقيل ثلاث مرات في سنة ثلاث وخمسين، وأربع وخمسين، وخمس وخمسين ومائتين.
وقد كتب الله الشهرة لرواية الفربري لصحيح الإمام البخاري .
و أسباب اشتهار وتميز رواية الفربرى عن غيرها من الروايات لعدة أمور.
الأمر الأول : عدالة الفَرَبْريّ وضبطه، وثناء العلماء عليه . الأمر الثاني : كمال نسخته وعدم نقصانها . الأمر الثالث : من الأمور التي تميزت بها رِواية الفَرَبْريّ صحة أصله الذي أخد منه . الأمر الرابع: من الأمور التي ميزت رِواية الفَرَبْريّ على غيرها: علو إسناده لبقائه مدة طويلة بعد البُخارِي .
الأمر الخامس: تكرار سماعه لـلصحيح من البُخارِيّ .
لقد انكب الناس على تحمل كتاب الجامع الصحيح فقد بلغوا تسعون ألفا , وتعددت الروايات عن البخارى , ولكن اشتهرت رواية الإمام الفربرى , وعن الفربرى انتشرت الرواة فى البلدان
فروى صحيح البخاري عن الفربرى , ابو إسحاق المُسْتَمْلِيّ (376) هـ وأبو محمد السَّرْخَسي الحَمُّوييّ (381) هـ وأبو الهيثم الكُشْمِيهَني (389) هـ واشتهر الثلاثة بروايتهم لـ «صحيح البُخارِيّ».
وعن الثلاثة اخذ أبي ذر الهَرَويّ (434) هـ
واشتهرت روايته فى المغرب بنسخة بن سعادة ,
واشتهرت فى المشرق بنسخه اليونيني .
و نسخة أبي الحسين اليونيني من صحيح البخاري والمسماة باليونينية، هي أعظم أصل يوثق به في نسخ ” صحيح البخاري ” ، وهي التي جعلها الإمام القسطلاني عمدته في تحقيق متن كتابه إرشاد الساري وضبطه حرفاً حرفاً وكلمة كلمة .
اعتنى الحافظ شرف الدين اليونينى بصحيح الإمام البخاري كثيرا , فقد اهتم بضبطه وتصحيحه ومقابلة النسخ على أصولها الصحيحة , حتى لانه قابل فى سنه واحدة صحيح البخارى إحدى عشرة مره , فاخرج لنا نسخه من صحيح البخاري فى غاية النفاثة والدقة وهى تقع في جزأين واعتمد على أصول أربعة مسموعة
الأول : أصل مسموع على الحافظ أبي ذر الهروي،
الثاني : أصل مسموع على الأصيلي،
الثالث : أصل الحافظ مؤرخ الشام أبي القاسم بن عساكر،
الرابع : أصل مسموع على أبي الوقت
وعقد الحافظ شرف الدين اليونينى مجالس لضبط وتصحيح وإسماع لصحيح البخاري بحضور شيخ العربية فى زمانه الجمال بن مالك صاحب الألفية فى إحدى وسبعين مجلسا .
وكان الجمال بن مالك إذا مرّ من الألفاظ يتراءى أنه مخالف لقوانين العربية قال للشرف اليونيني هل الرواية فيه كذلك، فإن أجاب بأنه منها شرع ابن مالك في توجيهها حسب إمكانه،
وفى اثناء قراءة الحافظ اليونينى كان الجمال بن مالك يلاحظ نطقه، يقول اليونينى (فما اختاره ورجحه وأمر بإصلاحه أصلحته وصحّحت عليه، وما ذكر أنه يجوز فيه إعرابان أو ثلاثة فأعملت ذلك على ما أمر، ورجح.)
و وضع بن مالك كتابه المسمى ب ( شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح ).
اما عن تنقلات النسخة اليونينية الأصل ، فمرت على النسخة اليونينية لصحيح البخاري مراحل وأطوار منذ انتساخها فقد أصبحت وقفا على خزانة مدرسة افبغاأص بالقاهرة , كما ذكر القسطلاني ثم مدرسة الجائي كما سماها المقريزي في خططه ثم ضاع المجلد الأول منها وبقى مفقودا مدة طويلة إلى أن وجد معروضا للبيع في سوق الكتب القاهرية فأتى به للشهاب القسطلاني وهو منهمك فى وضع شرحه على صحيح البخاري فاهتبل لذلك وفرح وأتم معارضته وشرحه عليه .
وقد أصدر السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى أمره بطبع صحيح البخاري في سنة 1311هـ، على أن يكون الطبع على النسخة «اليُونِينيّة» المحفوظة في الخزانة الملوكية بالأستانة. وعلى نُسخ أخرى: عرفت بالصحة، واشتهرت بالضبط.
وأصدر السلطان عبد الحميد أمره إلى مشيخة الأزهر بأن يتولى قراءة المطبوع بعد تصحيحه في المطبعة جمع من أكابر علماء الأزهر .
وكان شيخ الأزهر إذ ذاك الشيخ حسونة النواوي – رحمه الله تعالى – فجمع ستة عشر عالمًا من جهابذة علماء العصر وفحولهم من مختلف المذاهب، وكتبت قائمة بأسمائهم في أول الطبعة ,
و كتب الشيخ حسونة النواوي تقرير عن هذا .
لقد تمت الطبعة السلطانية (1311-1312هـ) بالشكل الكامل، وبهامشها تقييدات بفروق تلك النسخ، التى قابلها وصححها أكابر علماء الأزهر الذين اختارهم شيخ الأزهر الشيخ حسونة النواوي وعددهم ستة عشر عالمًا، وقد ذكر أسماءهم بالتفصيل في التقرير السابق , وبعد قراءتهم خرجوا بقائمة من التصويبات التي صحح بعضها في الطبعة والبعض الآخر لم يصحح لتعذره بعد الطباعة فقاموا بإثبات هذا الجدول أول الطبعة مع تمييز ما تم إصلاحه.
هذا باختصار كيف وصل إلينا صحيح الامام البخارى إلى عصرنا ؟ ، وهي أقوى في الثبوت ، وأن شبهة المطالبة بنسخة كتبها البخاري بخط يده ، شبهة سخيفة لا قيمة لها لذلك لم يحفل بها أكثرية عقلاء المستشرقين.
و لو افترضنا صحة الشبهة، القائلة بعدم وجود نسخة أصلية لصحيح البخاري، على افتراض ذلك ، فهل هذا يعني أن أحاديث البخاري تصبح باطلة لا قيمة لها وأنها مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك ينهدم قسم كبير من العقيدة الإسلامية والفقه الإسلامي؟ الجواب بكل بساطة: لا!
لن تزول هذه الأحاديث التي رواها لأن البخاري لم يتفرد أصلاً برواية حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من أئمة الحديث، فما رواه البخاري من أحاديث موجودة في كتب السنن والمعاجم والمسانيد و العشرات من كتب الحديث بل المئات ، مما يجعل التشكيك في أحاديث صحيح البخاري لعبة ساذجة جداً تدل على سفاهة المشكك فيها.